Wednesday 14 July 2010

تصدير «حضارة»... أم تصدير «إرهاب»؟

نتزاحم في كل عام طوابير أمام وكالات السفر ننتظر الفرج والهروب من حرارة الجو وسخونة الأجواء الاجتماعية، تسعة أشهر نمضيها لابسين الأقنعة على رغم أنوفنا، ملتزمين من غير اقتناع أو تدبير، فقط لأجل صورة رسمناها لأنفسنا، واعترفنا بأننا قادرون على أن نخدعها لحين.

وما أن يدق ناقوس الإجازة، حتى نسارع لخلع ثياب التقوى والكفاية من شيوخ وولدان، من ذكور وإناث، على شتى المستويات والطبقات الاجتماعية والعمرية.

بدايتها تكون عند صعود الطائرة، فتسارع النساء بخلع العباءة، أما الرجال، بحسب طبقتهم، إما بالجلباب الوطني، وإما ببدلة «جيفنشي»، فأما غطاء الرأس لنسائنا فهي أصبحت طوابق مبنية، ووجوه زخرفت بشتى أطياف ألوان قوس القزح، ولم نعد نرى البداية من النهاية، وروائح عود تعبر السحاب، وتصول وتجول في مكيفات الطائرة لتزكم الأنوف ثم تطول مراكز البنية في عقولنا بأن يوجد سيدة ذات رائحة نفاذة تدير الظهور والعيون للمناطق المحظورة، وأما رجالنا فتحلوا بأروع الساعات السويسرية وأرقى العطور الفرنسية، وأجمل القصات الغربية بعد أن كانت حبيسة الأدراج لحين وقت صعود الطائرة، ومحافظهم مليئة بشتى أنواع النقود، والكروت، التي جمعت طوال عام، وحرم منها الأطفال والزوجات، لتعلن حريتها في هذه الأوقات التي يعبر فيها الزوج الحدود الجغرافية ليصرفها وينثرها ذات اليمين وذات الشمال في الأماكن الليلية والملاهي العصرية، وعلى المغنين الموهوبين، وذوات الاختصاص من تصدير هذه الفئات خلال الصيف.

ففي أوروبا والبلاد الشرق أوسطية يعدون العدة لهذا الموسم ويترقبونه لملء جيوبهم التي فرغت طوال فترة الشتاء، فتراهم مستعدين لتلبية كل الرغبات العربية، من سيارات فارهة، وحسناوات، وأماكن معروفة للجميع، إذ الملتقى والرقص على أوتار الجذب للأجمل والأثرى وذلك كله يعتمد على الطبقة الاجتماعية وقدرتها على اجتذاب ما لم تقدر عليه في موطنها.

شوارع معروفة بالشوارع العربية، إذ الأغاني الخليجية تصدح بكل حرية، لتعلن أنه بهذا الموقع توجد ثروات جاهزة للعطاء، مادامت الطلبات منجزة، ومهيأة للأجواء، والطبيعة الخليجية، فنادق مملوءة لحد الاختناق، ورائحة الأطباق العربية تجوب بكل مكان، أما الظاهرة الجديدة، من شيشة لبنانية فهذه قصة أخرى من تلوث حتى الأنفاس الطبيعية، فالتلوث اجتاز حدوده الجغرافية ليصبح فيزيائياً وكيماوياً ويصبح معادلة رياضية.

ففي النهار ينام جنسنا من المخلوقات الغريبة، وفي الليل تستيقظ هذه المخلوقات الكونية لتصبح مثل الخفافيش لا تعيش إلا في الظلام لتحاكي نفسيات مظلمة ضبابية تعيش بازدواجية، وتجول وتصول تحت جناح الظلام حتى لا يرى أفعالها إلا من كانوا مثلها أبناء الظلام.

أين حضارتنا الإسلامية وهويتنا العربية التي بناها أجدادنا لعقود وأزمنة منسية؟ أين ابن بطوطة ومناطقه الجغرافية؟ أين ابن سينا من أمراضنا المستعصية؟ أين ابن حيان من تركيبتنا الكيماوية؟ أين المتنبي من لغة الضاد التي أصبحت منسية؟ أين المغرب العربي الشاهد على توسعنا وانهزامنا الحضاري؟ هل هذه العادات والقيم الإنسانية التي نريد بها تصدير حضارتنا الإسلامية وهويتنا العربية ومبادئنا الدنيوية؟ حضارة اندثرت وحل مكانها جهل، وصورة مشوهة لما آلت إليه مجتمعاتنا، من ضياع قيم وهدم حضارة، أريقت فيها الدماء، وخطت الأقلام والعلوم لوضع لبنة أساسية لكل العلوم العصرية.

أين ابن تيمية والشافعية والحنابلة من أحوالنا الاجتماعية؟ أم أصبحت مجرد مناهج تدرس في أروقة مؤسساتنا التعليمية؟ فنحفظ خلال العام، لنضعها في الأدراج خلال أسفارنا، فهذا يثبت عدم جدواها، وطريقة تعليمها لأجيالنا الحالية لأنه لم يعد يوجد قدوة ولا تدبر للمعاني الدينية، بل حفظ وكتابة للنجاح أو الرسوب لنيل شهادة وليس لكسب أخلاق ومنهج نسير عليه، وننتهجه كحضارة نصدرها للعالم، ونكسب الرهان وننجو من براثن الكفر والعصيان.

أما الإرهاب فهو جاهز للتصدير بكل عزيمة وتخطيط، كهوية وحضارة جديدة، بنينا عليها آثارنا المجيدة الحديثة، ففي كل بلد أوروبي نرى الشيوخ الملتحين أخبارهم على كل لسان، وفي الصحف أخبارهم تهز الأبدان، ونشوه صورة أفضل الأديان وسيرة خير الأنام، مراقبون، يبثون روح الفرقة، وأشكالهم لا تمت بصلة للجمال لا من بعيد ولا من قريب، زوجاتهم منقبات، وكأنهن بذلك اتبعوا سيرة عائشة وأمهات المؤمنين، ألم يتدبروا الآيات والسور في قرآننا بأنه لا توجد آية تدل على هذه العادة؟ وليست موجودة في الدين؟ أم أصبح الإسلام وسيلة لنشر العنف، والصورة القبيحة، ونسوا الجمال والسلام والسكينة، والحوار بين الأديان، فيكفرون ذاك ويحللون هذا، وكأنهم يملكون رقاب العباد ولا يعرفون أن هذا فقط لرب العباد؟

أحوالنا الداخلية لا عجب، وأما أحوالنا الخارجية حبر على ورق، فالحبر تمحوه المياه المتدفقة، من تشدد على العباد من غير رخصة إسلامية، ولا تدبر للسيرة النبوية.

أما العجب وكل العجب فنزوحنا الجماعي للسفر في كل عام، من غير تغيير للأنماط السلوكية التي تدعو للاستحياء من رب العباد، من إسراف وجهل، كأن انتهالنا من ثقافتهم وحضارتهم كفر وحرام، وسهرنا في الليالي حلال، وانتقام من حال مرضية مستعصية لا توجد لها هوية.

أين أخلاقنا وعلومنا؟ وثقافتنا وحضارتنا يا أمة محمد؟ أين أضعنا الهوية؟

بين انحلال حضارة، وسطوع نجم نمط جيد للإرهاب المستتر المعلن، الرواية محبكة، والأدوار موزعة، أين الصواب وأين الخلل في هذا المرض الذي استحوذ على عقولنا وغيّر من طباعنا, وأغنى جيوب من نلقبهم بالكفار والمتمردين على الله، وعلى رغم كل هذا نسافر كل عام للأهداف نفسها، وهي التحلل من القيود الداخلية، والأقنعة الذهبية، والبرونزية، والبلاستيكية، لتصبح هجرة جماعية ليد العالم، من نحن وما ثقافتنا وحضارتنا الحالية، من أخلاق وصور مبتذلة ليس لها علاقة للحضارة من صلة؟

متى نرى أنفسنا في المرآة، من غير أقنعتنا، ولا سحر كلماتنا، التي أعمت بصائرنا عن رؤية الحقيقة؟ وهي أننا كأمة أصبحنا أضحوكة وممولين للجيوب، وليس شعباً ذا احترام وقيم ظاهرة للعيان. فحلالنا مرهون بفتوى، وحرامنا مرهون بأهواء. وقيمنا وثقافتنا أصبحت «هز البطون، وآهات يا ليل يا عين»، فنحن موقوفون جامدون في فضاء لا يسمع إلا رنين الذهب، وأهواء لا يرضيها إلا الأغاني والطرب. وبالمقابل رجال لا يستهويهم إلا الضرب على الوتر، وتر تمثيل إسلام بُني على هدم للقيم بشتى الوسائل من عنف وترهيب، وإرهاب للنفوس، فأصبحنا ما بين البين، في جهتين، قطب جنوبي، وقطب شمالي، لا يلتقيان أبداً.

أضعنا الهوية والحضارة أيتها الأمة العربية التي بناها أجدادنا بكل كد وتعب، وبجرة قلم أزلنا قروناً من التألق وتصديراً للفنون والعلوم والسلام، لنصبح مهزلة وألعوبة عالمية يقذف بنا ذات اليمين وذات الشمال، وحضارة اضمحلت وغادرت، وأصبح مكانها مصطلح اسمه الإرهاب، والشتات، وضياع حضارة كانت على سفوح جبال وقمم.

No comments:

Post a Comment