يتطلع المصرين والأمة العربية الإسلامية كلها، بعد ثورات التحرير التي رفعت سقف الحريات،وأذكت روح النهضة الشاملة لدى مختلف الفئات، إلى علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها، كي يحرروا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء ومنظومة الحريات الأساسية التي صاغتها المواثيق الدولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصري، تأصيلا لأسسها، وتأكيدا لثوابتها، وتحديدا لشروطها التي تثري حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل: وهي حرية العقيدة، وحرية البحث العلمي، وحرية الرأي والتعبير، ثم حرية الإبداع الأدبي والفني المعبر عن هوية الأمة ووجدانها، ومستوجب النهضة أن يقوم استيعاب ذلك على أساس متين من فهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي والإنساني، بما يجعل من الطاقة الروحية المذخورة للأمة وقودا للنهضة، وحافزا للتقدم، وسبيلا للرقي المادي والمعنوي، في جهد موصول يتضافر فيه الخطاب الديني المستنير مع الخطاب الثقافي الرشيد، ويندرجان معا في نسق مستقبلي مثمر، يحفظ لكل منهما خواصه ومنطلقاته، ويوحد بينهما في الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع.
ومن هنا فإن مجموعة العلماء الأزهريين والمثقفين المصريين التي أصدرت وثيقة الأزهر بقيادة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، اتبعتها ببيان دعم حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية السياسية والديمقراطية، قد تدارست فيما بينها القواسم الفكرية المشتركة في منظومة الحريات العامة ، والحقوق الإنسانية المقررة، وانتهت إلى إقرار جملة من المبادئ والضوابط المؤكدة لها ، والضابطة لمفاهيمها ، في ضوء اللحظة التاريخية الراهنة التي يجتازها الوطن، وتحافظ على جوهر التوافق المجتمعي ، وترعى الصالح العام في مرحلة التحول الديمقراطي، حتى تنتقل الأمة إلى بناء مؤسساتها الدستورية بسلام وأمان وتوفيق من الله سبحانه وتعالى:
أولا: حرية العقيدة:
تعتبر حرية العقيدة.. وما يرتبط بها من حق المواطنة الكاملة للجميع القائم على التساوي في الحقوق والواجبات ـ حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولة بصريح الأصول الدستورية المقررة ، والنصوص الدينية القطعية، وإذا يقول عز وجل :( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ويقول أيضا: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ويقول عز من قائل: ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) وترتب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه، فلكل فرد في المجتمع أن يعتنق من العقائد ما يشاء دون أن ينقص ذلك من أهليته كمواطن حر مسئول، شريطة أن لا يمس ذلك النظام العام، وحق المجتمع في الحفاظ على عقائده السماوية، وهويته التي يحددها الدستور، فللأديان السماوية الثلاثة في مصر قداستها واحترامها الكامل، وللأفراد حرية الاختيار فيما بينهم وبين ربه من دون عدوان على مشاعر بعضهم البعض أو مساس بمقدساتهم. بالقول أو الفعل.
هذا، ولما كان الوطن العربي مهبط الوحي السماوي، وكانت مصر حاضنة الأديان الثلاثة السماوية المعترف بها، فهي أشد بها التزاما من غيرها في رعاية قداستها واحترام شعائرها، وصيانة حق حرية الأفراد في الإيمان بها، وممارسة شعائرها، وهذا ما قرره القرآن، وناط بالدولة حمايته ورعايته } ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا{ بكرامة تامة وحرية مصونة.
ويترتب على احترام حرية العقائد التسليم بحق التعددية الدينية في المجتمع المصري، ورعاية حق الاختلاف، ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين، بل الحفاظ على جميع حقوقهم ، والمساواة الكاملة بينهم، على أساس متين من المواطنة والشراكة الكاملة، وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات.
كما يترتب أيضا على إقرار التعددية الدينية للمجتمع رفض نزعات الإقصاء والتكفير، وإدانة الآخرين أو اتهامهم في معتقداتهم ، أو التفتيش في ضمائرهم، بناء على ما استقر من نظم دستورية، وعلى ما استقر بين علماء المسلمين من تقاليد سمحة قررتها الشريعة في القول النبوي: ( هل شققت عن قلبه)، ومن هديها يقول الإمام الشيخ محمد عبده رائد الفكر المصري :" إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِِلَ على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر".
وينبغي التأكيد على أن حرية الاعتقاد التي كفلتها الشريعة الإسلامية وأكدها الدستور، لا تعني إباحة التبشير العلني بالزندقة والإلحاد، لما في ذلك من ازدراء للإيمان الديني، في الأديان الثلاثة، ولمقدسات المجتمع ونظامه العام الذي يمثل مقوما من مقومات الاجتماع ، ومعلما من معالم هوية الأمة وثوابتها المشتركة.
ثانيا: حرية البحث العلمي:
يعد البحث العلمي الجاد في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية، وغيرها، قاطرة التقدم البشري ، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانين نظمه، لتسخيرها لخير الإنسانية ، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقات الأمة له، وحشد إمكاناتها من أجله، ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة التي افتتحت بكلمة :} اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق*اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم*علم الإنسان ما لم يعلم{ في الحث على النظر والتفكر والتدبر في الظواهر الكونية والإنسانية ، لاستخلاص سننها وقوانينها، حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن تلا: ) إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ....( ـ: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وقد مهدت هذه التوجيهات الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، قادها علماء الإسلام عدة قرون، انتقلت شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف ومتداول لدى مؤرخي العلم الغربيين، وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون، فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر، وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وافتراض الاحتمالات واختيارها بالمعايير الفنية الدقيقة ، وأن تمتلك الخيال المبدع والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية كل جديد، لا يحدهم في ذلك سوى أخلاقيات العلم التي حددتها منظومة القيم الدينية وتقاليد الإبداع العلمي نفسه، وكما يقول الإمام الشيخ محمد عبده أيضا:"فالمسلمون مسوقون بحكم دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والمجد، ولا يتوافر شيء من وسائل ذلك إلا بالعلم ، فهم محفوزون أشد الحفز إلى طلب العلم، وتلمسه في كل مكان، فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل ، أو عثروا به في أي جيل، شدوا به أواصرهم ، ولا يبالون ما تكون عقيدته إذا نفعتهم حكمته، والحكمة ضالة المؤمن حيث وحدها فهو أحق بها.
فإذا صح ذلك في العصور الماضية فهو أجدر بالصحة في العصر الحديث الذي أصبح العلم فيه مناط القوة المادية والمعنوية، ومصدر السلاح والخبز كما يقال، وبعد أن جاب العلماء آفاق الفضاء وأعماق البحار، وتسابقت الأمم بواسطته في دخول مجتمعات المعرفة وعوالم السيادة، وقد كان الغرب التقليدي يكاد يحتكر مسيرة العلم، حتى جاءت نهضة الصين واليابان، ومن تبعهم من الكوريين والهنود والبرازيليين لتشارك في تقدم العلم وتطبيقاته التقنية، وقد آن الأوان ليدخل المصريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية، بضمان الطاقات البشرية والمادية له، باعتباره أهم شروط تقدم الأمم وسبيل الحفاظ على كرامتهم في عالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين.
ثالثا: حرية الرأي والتعبير:
حرية الرأي هي من أم الحريات كلها، ولا يمكن أن تتجلى إلا في التعبير عنه بمختلف الوسائل من كتابة وخطابة وإنتاج فني، وتواصل رقمي، وهي الآن مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل حرية المجتمعات، وتكوين الأحزاب وغيرها من منظمات المجتمع المدني، وحرية الصحافة، والإعلام المسموع والمقروء والمرئي، وحرية التواصل الرقمي ، كما تشمل أيضا حرية الحصول على المعلومات اللازمة لتكوين الرأي، وحرية تكوين الجمعيات وممارسة الأنشطة المختلفة، فهي جوهر الحريات العامة، ومن ثم فلابد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية.
ولابد لنا أن نتمسك بالتعريف الجيد الذي حددته المحكمة الدستورية العليا في مصر بخصوص حريات التعبير المختلفة، وضرورة أن تضمن حق النقد البناء ولو كان حادا، فالنقد البناء لا يتطلب لزوم رصد كل عبارة احتواها الخطاب أو المطبوع منفصلة عن سياقها، فالمدافعون عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وانه إذا أريد لحرية الرأي أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه، ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط أو المغالاة أحيانا في الآراء مستوجبا إعاقة تداولها تماما، خاصة إذا كان الأمر متصلا بالقضايا العامة، ولكن من الضروري أن ننبه إلى وجوب احترام المعتقدات الدينية وعدم التجاوز فيها أو المساس بها بأي حال، لخطورة ذلك وتهديده للأمن الوطني والنسيج الاجتماعي، فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية باسم حرية التعبير، أو يجاهر في الأوساط العامة بالطعن على الأديان السماوية الثلاث، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل ، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة والتهويل، طبقا لما يراه المتخصصون وأصحاب الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديمقراطية، ويدعون إلى تنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، وغن كان توخي الحكمة في ممارسة كل ذلك مرهون بتطور المجتمع نفسه، وبتكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويجيد الحوار وينبذ التعصب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الإسلامي الرشيد الذي كان يقول فيه المجتهد : "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا يحتمل الصواب" ومن ثم فلا سبيل لنا إلا مجابهة الرأي بالرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، طبقا لآداب الحوار وما استقرت عليه المجتمعات الرشيدة، ويجب العمل على أن يكون "التوافق" عن طريق "الحوار" ثقافة سائدة.
رابعا: حرية الإبداع الفني:
ينقسم الإبداع إلى إبداع علمي يتصل بحرية البحث العلمي التي قررناها من قبل، وإبداع أدبي وفني يتمثل في أجناس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي وملحمي، وسرد قصصي وروائي، وموسيقى، ومسرح، وسير ذاتية، وفنون بصرية تشكيلية من رسم ونحت وتصوير، وفنون سينمائية وتلفزيونية، وأشكال مستحدثة في كل هذه الفروع.
والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع ، وترقية الإحساس الجمالي، وإثراء الوجدان الجماعي، وتثقيف الحواس الإنسانية، وتوسيع مدارك الناس، وإذكاء مشاعرهم، وتعميق خبرتهم بالحياة والمجتمع، وكلها وظائف اجتماعية سامية تؤدي إلى إثراء اللغة والثقافة القومية وتنشيط الخيال، وتلتقي في جوهرها مع الهداف الأخلاقية والاجتماعية السامية للأديان السماوية، وتعد من ابرز مظاهر الحضارة الإنسانية وأشدها قابلية للتبادل والتأثير والخلود على مر الزمان.
ولقد تميزت اللغة العربية بثرائها الأدبي وبلاغتها المشهودة حتى جاء القرآن الكريم في الذروة من البلاغة والإعجاز، فزاد من جمالها وأبرز عبقريتها، وتغذت منه في فنون الشعر والنثر والحكمة، وانطلقت مواهب الشعراء والكتابة من جميع الأجناس التي آمنت بالإسلام ونطقت بالعربية، وأبدعت في إطارها جميع الفنون القولية وغيرها، بحرية تامة ومشاركة إنسانية رائعة، امتدت على مر العصور، بل إن العلماء القائمين على الثقافة العربية الإسلامية من شيوخ وأئمة كانوا هم في الوقت نفسه رواة الشعر بكل فنونه، والنص بجميع أشكاله، وكتب الأدب الموسوعية ودواوين الشعراء الحافلة، تمثل قاعدة ثقافية عريضة مستوعبة تتجلى فيها الحرية بأوسع معانيها، وقد روى شعر الغزل وغيره، وأنشدت القصائد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته، ورواة الأئمة في كل العصور ، على أن القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية وقدرته على تصوير ذائقته وتوسيع دائرة حريته من ناحية أخرى . مع ضبط حرية الإبداع بمنظومة القيم الأخلاقية التي أجمعت عليها الديانات السماوية، ولذا فمن الضروري في المرحلة الراهنة مراعاة عدم المساس من قريب أو بعيد بالمقدسات الدينية وضرورة احترامها، فكلما ارتفع سقف الحرية في المجتمع كان ذلك شاهدا على نضجه وتقدمه الحضاري، مع مراعاة خصوصيته الثقافية وهويته الحضارية وتميزه عن غيره من المجتمعات ، فالخصوصية هي أحد سمات الثقافة.
· وفي الختام نحب أن نؤكد أن الحرية فريضة وضرورة، وليست مجرد حق يمنح حينا ويمنع حينا آخر. وهذه الحرية كي تكون مثمرة لابد أن تقترن بالمسؤولية، وليس الفنان أو المبدع كائنا من كوكب آخر، بل في النهاية مواطن يعنيه كل ما يعني مواطنيه وأفراد مجتمعه.
· وان التعددية في المناهج والشرائع والثقافات والحضارات هي سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، وهي سنة ماضية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولابد من الوفاء باستحقاقات هذه السنة الاجتماعية الكونية.
· وغن الحضارات الإنسانية الكبرى ذات المواريث الغنية، تتشارك في العلوم الطبيعية –الدقيقة والمحايدة- التي لا تختلف حقائقها وقوانينها باختلاف عقائد المبدعين لهذه العلوم، وقد تتفاوت الحضارات في ضبط تطبيقات هذه العلوم الطبيعية بالقيم والخلاق الإنسانية العامة، أما في العلوم الاجتماعية والإنسانية وميادين الفنون والآداب، فغن مجالات التمايز والخصوصيات الحضارية حقيقة لا شك فيها، ومجالها أرحب بكثير من سابقاتها، كما هو معلوم، بل إن إدراك التميز والخصوصيات في هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية وفي الآداب والفنون هو المفجر لطاقات الإبداع فيها، ويعبر عن خصوصيات الأمم والثقافات.
وإذا كان الإبداع هو نقيض الجمود والتقليد، فإن الجمود على الماضي والاكتفاء به أو الانكفاء عليه، هو كتقليد الآخر المختلف أو محاكاته دون أصالة أو تميز، وكلاهما عدو الإبداع، وثمرة القيود الوهمية أو المفروضة، ولا وجود لهما في ديننا أو حضارتنا الحقيقية.
· وفي الرؤية الإسلامية ، التي كرمت الإنسان – مطلق الإنسان – وحررته بحكم الميلاد، والتي جعلته خليفة في الأرض، كانت حقوق هذا الإنسان الخليفة محكومة بحقوق الله وحده، الذي استخلفه لعمران الأرض، وإبداع كل ألوان الجمال التي تزينها ، وعبادة ربه بكل هذه الأنشطة الإبداعية والحضارية.
والحمد لله رب العالمين.
وتعليق
كما أحببت هذا الأسبوع عوضا عن كتابة مقالة عن واقعنا الأليم في مجتمعنا الذي أصبح لا يرى ولا يسمع لا القريب ولا البعيد ويدعو إلى الصمت وعدم الأخذ بالأسباب، والصمم الكامل عن سماع الأصوات والعويل، والعمى الكلي عن المشاكل.
أن أعلق عن استقبال قداسة البابا شنودة بابا مصر وإفريقيا لطائفة الأرثوذكس الذي احتفى باستقبالي وقدومي للتحية والسلام والحوار، واحتفى بي كما لم يحتفي بي أهلي ومجتمعي وعلمائنا الكبار الذين ينأون بأنفسهم عن مشاركة العالم بتبادل وجهات النظر، ويكفرون من يخرج عن رأيهم ووجهة نظرهم ذات المعنى الأوحد والزوايا المنفردة في هذا العالم الذي بات متسامحا يريد توحيد الصف لمواجهة أخطار انحراف الأخلاقيات في شتى الأديان والمذاهب، وقد تبادلنا الحوار في جو من الاحترام والتقدير، وهنا أتوجه لكل عالم في بلادنا كما توجه خادم الحرمين الشريفين لزيارة الفاتيكان، ماذا سينقصنا إذا اصطففنا مع إخواننا وأشقائنا من كل الأديان والمذاهب لتوحيد واستقرار الإنسانية على شتى اختلاف الألوان والمذاهب والهوية والحدود الجغرافية، أم أصبح الازدراء من معالمنا، والاستعلاء من مناهجنا، والغلو طريقتنا في الاستحواذ على السلطة من غير أخلاقيات، أقلها احترام الآخرين ونبذ كل أنواع التفريق، ومخاطبة الجميع وتقدير كل ذي لب وعقل حكيم.
كما أشكر طاقم الاستقبال الذي ضم الأنبا بطرس والأنبا موسى الذي رحب بدعم كل مشروعاتي الإنسانية في شتى بقاع الأرض التي تقع سلطة الكنيسة الأرثوذكسية ، فمن أولى بمشروعاتي الإنسانية: بلدي ووطني؟ أم البلاد الأخرى؟، وإن كانت شقيقة وذات مكانة غالية في قلبي، وأحببت أن أنوه فيما بين السطور أنمه لم يتم تقبل أي من مشاريعي الإنسانية في المملكة ولم أدعى من قبل أي جهة دينية لدعم أي من مشروعاتي الإنسانية والحوار لكون المملكة محط أنزار الجميع وقبلة المسلمين في كل مكان، وكنت أتمنى هذه الحفاوة والتقدير والدعم من الداخل وليس من الخارج، ولكن للأسف هذا الوضع الذي وجهت به هو واقع مجتمعنا لكل من يريد الخير لبلاده.
وفي الآخر وليس الأخير، وليس بغريب وقوف الأزهر الشريف وإمامه وراء دعم مشروعي القادم "البروج العالمية المتحدة" لخدمة الإنسانية، وقد رأيت أن أبدأها بمصر وأرضها وشعبها الطيب، لوجود دعم من هذه الفئات ذات النظرة البعيدة الإنسانية الذين يقدرون مساواة وخدمة المجتمع باختلاف طبقاته وألوانه وأطيافه، ويشجعون السلام في كل مكان،خلافا لما وجدته من ردة فعل لكل مشروعاتي الإنسانية في بلدي الحبيبة، لذا وجب مني التقدير وليس فقط كلمة شكر بل سطور وجمل من الاحترام لهذا الرجل العظيم" أحمد محمد الطيب" الذي أثبت أن الاسم من مرتبط بالمسمى، والأحمدين في اسمه مربوطان بالطيبة والإحسان والرحمة والبصيرة والسلام.
همسة الأسبوع:
بلا تعليق!!
كلمة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر في تقديم الوثيقة
إن اللحظة الحاسمة التي تعيشها مصر، لتجعل من أمنها واستقرارها والحفاظ على مكاسب ثورتها سقفا تقف عنده كل منازع الفرقة والشتات، وتتوحد تحته كل اختلافات التنوع والتكامل الذي ننشده لوطننا ولمصر في هذا المنعطف التاريخي الحاد، وأصدقكم القول: بان تنوع الاجتهادات حول إستراتيجية المستقبل ، إذا تحول إلى تقاطع وتنابذ فكري فلن يكون حصاده إلا ثمرا مرا للوطن ولمصر في حاضرها ومستقبلها. إن الدساتير- في حقيقتها- إنما هي تعبير صادق عن هوية أمة، وضمير شعب، ومصالح مجتمع، كما أن تنوع الاجتهادات حول البناء السياسي والدستوري القادم لن يكون تنوعا محمودا إلا إذا ظل في إطار وحدة الوطن وأهدافه العليا.
والزهر الشريف –الذي أعلن أكثر من مرة أنه يقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، وانه يتابع بكل دقة واهتمام أطروحات الجميع حول مستقبل الوطن- يعلن في صراحة ووضوح أنه لا يخوض غمار العمل السياسي، ولا الحزبي ولا السياسة بمفهومها المعتاد ، فإن هذا ليس من شأنه ولا ضمن اهتماماته، لكنه يحمل على كاهله دورا وطنيا تجذر في التاريخ، وحملته إياه الأمة، للحفاظ على حضارتها الممتدة ، وثقافتها الراسخة ، وهويتها التي تأبى الاختراق والذوبان ، ومن منطلق هذا الدور الوطني للأزهر، وهذه المسئولية التي يشعر بثقلها ويدرك أمانتها أمام الله والتاريخ، ندعو أبناء الوطن إلى النظر في التوافق حول"وثيقة الأزهر" ، كحل يخرج به الناس من ضيق الاختلاف وخطره، إلى سعة الآفاق الرحبة والتعاون الجاد، من اجل بلدنا جميعا، وتقديرا لدماء شهدائنا ، وتضحيات جماهيرنا.
"ووثيقة الأزهر" هي مجرد إطار قيمي يصون أساسيات شعبنا وثوابته، ويعتبر الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة من ثوابت المطالب الوطنية، بكل ما تستوجبه من مواطنة كاملة، وتداول حقيقي للسلطة يمنع احتكارها من فريق، أو الوثوب عليها من فريق آخر.
وهذا التوافق يؤهلها لأن تكون وثيقة يسترشد بها عند وضع الدستور، وميثاق شرف يلتزم به الجميع طواعية واختيارا، لا يفرض على احد، وغنما يترك الأمر فيه للإرادة الشعبية التي يعبر عنها الدستور المنتظر.
ولعل هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها الآن تمثل إرهاصا من الجميع بتوافق يتمسك بثوابت مصر، ويصون ثورتها ويحمي استقلالها ، ومصالح شعبها في عالم متغطرس لا يرحم الضعفاء ولا المتناحرين، ولا يسعده تماسك شعب مصر والتفاته حول مصلحته ، ووحدة مصيره.
شيخ الأزهر
أحمد محمد الطيب
وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر
بمبادرة كريمة من الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر اجتمعت كوكبة من المثقفين المصريين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية مع عدد من كبار العلماء والمفكرين في الأزهر الشريف، وتدارسوا خلال اجتماعات عدة مقتضيات اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وأهميتها في توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النبيلة وحقوق شعبها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
وقد توافق المجتمعون على ضرورة تأسيس مسيرة الوطن على مبادئ كلية وقواعد شاملة تناقشها قوى المجتمع المصري وتستبصر في سيرها بالخطى الرشيدة، لتصل في النهاية إلي الأطر الفكرية الحاكمة لقواعد المجتمع ونهجه السليم .
واعترافاً من الجميع بدور الأزهر القيادي في بلورة الفكر الإسلامي الوسطيّ السديد، فإن المجتمعين يؤكدون أهميته واعتباره المنارة الهادية التي يُستضاء بها، ويحتكم إليها في تحديد علاقة الدولة بالدين وبيان أسس السياسة الشرعية الصحيحة التي ينبغي انتهاجها؛ ارتكازاً على خبرته المتراكمة، وتاريخه العلمي والثقافي الذي أرتكز على الأبعاد التالية:
1- البعد الفقهي في إحياء علوم الدين وتجديدها، طبقاً لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يجمع بين العقل والنقل ويكشف عن قواعد التأويل المرعية للنصوص الشرعية .
2- البعد التاريخي لدور الأزهر المجيد في قيادة الحركة الوطنية نحو الحرية والاستقلال .
3- البعد الحضاري لإحياء مختلف العلوم الطبيعية والآداب والفنون بتنوعاتها الخصبة .
4- البعد العملي في قيادة حركة المجتمع وتشكيل قادة الرأي في الحياة المصرية .
5- البعدُ الجامع للعلم والريادة والنهضة والثقافة في الوطن العربي والعالم الإسلامي .
وقد حرص المجتمعون على أن يستلهموا في مناقشتهم روح تراث أعلام الفكر والنهضة والتقدم والإصلاح في الأزهر الشريف، ابتداءً من شيخ الإسلام الشيخ حسن العطار وتلميذه الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى الإمام محمد عبده وتلاميذه وأئمته المجتهدين من علمائه من أمثال المراغي ومحمد عبد الله دراز ومصطفى عبد الرازق وشلتوت وغيرهم من شيوخ الإسلام وعلمائه إلى يوم الناس هذا .
كما استلهموا في الوقت نفسه إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطور المعرفي والإنساني، وأسهموا في تشكيل العقل المصري والعربي الحديث في نهضته المتجددة، من رجال الفلسفة والقانون، والأدب والفنون، وغيرها من المعارف التي صاغت الفكر والوجدان والوعي العام، اجتهدوا في كل ذلك وركزوا في وضع القواسم المشتركة بينهم جميعاً، تلك القواسم التي تهدِفُ إلى الغاية السامية التي يرتضيها الجميع من عقلاء الأمة وحكمائها، والتي تتمثل في الآتي:
تحديد المبادئ الحاكمة لفهم علاقة الإسلام بالدولة في المرحلة الدقيقة الراهنة، وذلك في إطار إستراتيجية توافقية، ترسُم شكل الدولة العصرية المنشودة ونظام الحكم فيها، وتدفع بالأمة في طريق الانطلاق نحو التقدم الحضاري، بما يحقق عملية التحول الديمقراطي ويضمن العدالة الاجتماعية، ويكفل لمصر دخول عصر إنتاج المعرفة والعلم وتوفير الرخاء والسلم، مع الحفاظ على القيم الروحية والإنسانية والتراث الثقافي؛ وذلك حماية للمبادئ الإسلامية التي استقرت في وعي الأمة وضمير العلماء والمفكرين من التعرض للإغفال والتشويه أو الغلوّ وسوء التفسير، وصوناً لها من استغلال مختلف التيارات المنحرفة التي قد ترفع شعارات دينية طائفية أو أيدلوجية تتنافى مع ثوابت أمتنا ومشتركاتها، وتحيد عن نهج الاعتدال والوسطية، وتُناقِض جوهر الإسلام في الحرية والعدل والمساواة، وتبعدُ عن سماحة الأديان السماوية كلها .
من هنا نعلنُ توافقنا نحن المجتمعين على المبادئ التالية لتحديد طبيعة المرجعية الإسلامية النيرة، التي تتمثل أساساً في عدد من القضايا الكلية، المستخلصة من النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، بوصفها المعبرة عن الفهم الصحيح للدين، ونجملها في المحاور التالية :
أولاً : دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة . ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية .
ثانياً : اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون – والقانون وحده- وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها .
ثالثاً : الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع .
رابعاً : الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليهما في التعامل بين فئات الشعب المختلفة، دون أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين .
خامساً : تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية، والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة، وما قدمه من نماذج فائقة في التعايش السلمي ونشدان الخير للإنسانية كلها .
سادساً : الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصيلة، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة .
سابعاً : اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر، وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا في هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كلّه لمحو الأمية، واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبرى.
ثامناً: إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية والثقافية والإعلامية على أن يأتي ذلك على رأس الأوليات التي يتبناها شعبنا في نهضته الراهنة، مع اعتبار الرعاية الصحية الحقيقية والجادة واجب الدولة تجاه كل المواطنين جميعاً .
تاسعاً : بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الأفريقية والعالمية، ومناصرة الحق الفلسطيني، والحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، واسترجاع الدور القيادي التاريخي على أساس التعاون على الخير المشترك وتحقيق مصلحة الشعوب في إطار من الندية والاستقلال التام، ومتابعة المشاركة في الجهد الإنساني النبيل لتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وتحقيق السلام العادل بين الأمم .
عاشراً : تأييدُ مشروع استقلال مؤسسة الأزهر، وعودة ” هيئة كبار العلماء” واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري؛ ليسترد دوره الفكري الأصيل، وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء.
حادي عشر: اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة ، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة.
ويُهيبُ علماء الأزهر والمثقفون المشاركون في إعداد هذا البيان بكل الأحزاب والاتجاهات السياسية المصرية أن تلتزم بالعمل على تقدم مصر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في اطار المحددات الأساسية التي وردت في هذا البيـــان .
والله الموفق لما فيه خير الأمة .