تستعد المنطقة بأسرها بالنزوح الجماعي إلى خارج البلاد لقضاء صيف بعيدا عن سخونة الطقس ولهيب الحالة السياسية ونار الفتاوى العصرية.
رحلة ألف ليلة وليلة، لماذا؟ لأن شعبنا المختار لا يقوم النهار بل يستيقظ مع مغرب الشمس، ليبدأ رحلة الأسحار من سهر الليالي في الملاهي الليلية، يتسابقون بحضور حفلات أشهر المغنين والمغنيات العرب، ثم ينامون بعد الفجر وطلوع شمس الضحى لينالوا قسطا من الراحة ليبدأوا لياليهم من جديد عند مغيب شمس أخرى.
فهل هذا مغيب الرسالة السماوية، وهو إسلامنا وتعاليم كتابنا المنسية. «وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا». ألم تكن هذه طبيعة البشرية. أصبحنا عبدة الليالي، وقصصا لألف ليلة وليلة نمضي بها الصيفية؟
فأصبح الليل معاشنا والنهار سباتنا، وتخلينا عن القيم الإسلامية من حب للثقافة والعلوم والفنون، هذا كان نهج الرسالة الكونية إلى حب السهر والنجوم، فأصبحنا لا نرى إلا عند الغروب، مخلوقات ليلية لا تمت للسفر والتعلم بصلة ولا قانون.
نسافر أشتاتا وجمعا ولكن أين الثقافة التي نعود بها، أين الحضارة التي ننشرها، أين التعاليم التي نمشي بها؟ أضعناها وضعنا في بحور الظلمات بين الملاهي الليلية والشهوات الجنسية التي حالما نركب الطائرة تحيى وترزق وتصبح من معالمنا وهويتنا العالمية.
ألهذه الحالة تشخيص؟ أم هي نتيجة حتمية لوضعنا في بلادنا الأبية ففي الداخل، وفي حياتنا اليومية نؤم المساجد ونركع مع الراكعين ونقوم الليل خاشعين ونهز رؤوسنا بالإيجاب والخنوع والخضوع لكل من ينادي بالدين وعدم الاختلاط وتفريق العائلات عن الشباب، وتحليل وتحريم كل حسب أهوائه وانتمائه وقناعاته الشخصية ضاربين بعرض الحائط السيرة النبوية وآيات الله المحكمات التي لا تحتمل التأويل ولا الفتاوى العصرية.
فأصبحنا خلف الأسوار نمارس شذوذنا، وأمام العالم والإعلام نمارس همجيتنا، ونشوزنا عن تعاليم إسلامنا، فلدرء المفاسد نصدر الفتاوى، ولكبح جماح شبابنا نفتي بما هو ليس في ديننا، ونلجأ لأحاديث وضعت زمن الفتنة والمرتدين والخارجين والتناحر على السلطة في زمن آخر الخلفاء الراشدين لإثبات الحجة، والتنافس على السلطة، فضاعت الأحاديث ووضعت لتناسب أهواء سلاطين ذاك الزمان، وأخذناها من غير تدبير، ولا تفريق، وتركنا الأصل وهو القرآن والسنة النبوية، ألم يتعهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذاك الوقت بقتل راويين الأحاديث النبوية، لماذا؟، لأنه عرف أن الأحاديث ستسيس لتنال رضا هذا، وتحليل ذاك فأمر بتركها والرجوع إلى الأصل وكتابة فقط السيرة، لتكون منهجا متبعا وليست أحاديث منقولة لمن وكيف الله اعلم. فلم ترو الأحاديث إلا في آخر عهد الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكلنا نعرف الحقبة والسياسة التي عمت أحوال ذاك الوقت من الخارجين والمرتدين، والمؤيدين لذاك الحاكم، والتناحر على الخلافة، ومع كل هذه البراهين نحن سائرون للتحليل والتحريم، ضاربين بعرض الحائط أن القرآن شمل وسدد وأنه كامل لا يحتمل التأويل ولا الفتاوى التي تدار من خلف الستار حسب التراث وعادات الأجداد والآباء التي ما فتئ القرآن يذكرنا أنها من أعمال الشيطان.
لذا أصبح لدينا حالة انفصام شخصية صعبة العلاج ولا يوجد لها دواء إلا بالنهوض من هذا الغموض والتشتت الديني والرؤية الضبابية، لأن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، أما لهذه العبارة لدينا من عبرة ؟ فصلنا شبابنا وعوائلنا عن بعض فأصبح لدينا نهم وجوع للآخر، ولم نقرأ القرآن بروية لنعلم أن الله خلقنا سويا وجمعا لا أشتاتا لنتعارف، ولم يأمرنا بالتفرق والتفريق. فأصبح مجتمعنا ، متفرقا، فكلمة مجتمع معناها الاجتماع، هذا للشباب لسوء حظهم، وهذا للشابات ، وبهذا أصبح الجوع أشد والنهم أكبر للآخر، فأصبح الكبت سمتنا، والأمراض النفسية والعنف الأسري في جذورنا قوية، فما أن يحين موعد الإجازة إلا وترى لوحات من الانحلال والنشوز عن باقي مخلوقات الأرض في أسفارنا، فللعرب هوية أخرى لدى سفرهم، من البذخ، والاجتماع غير البريء والمظاهر المؤسفة، والصورة غير السوية لعوائلنا ، وشبابنا متهم في الحصيلة نتيجة مجتمعنا الذي أصر على المضي في طريق كبت الحريات الشخصية، التي لم يحرمها لا دين ولا سيرة نبوية، نراهم في كل مكان عند مغيب الشمس يفطرون، وعند كل زاوية ومقهى يرتعون، وللثقافة والفنون رافضين، إلا من رُحم ، وأنشودة الملايين من عواطف وشجون، ومشاعر ملتهبة حصرت السنة كلها، لتخرج من قمقمها وتعلن العصيان وتصبح كالوحش والنيران تلتهم الأخضر واليابس على السواء دون تفريق ولا اختيار.
فإلى متى سنكون كل هذا المنهج سائرين باسم الأخلاق، والإسلام الذي هو من هذه الممارسات بريء، يفتون بحرمة هذا، ويحللون هذا ويباركون هذا، وكله باسم الدين، لا سماحة ، ولا استقراء لحالة مجتمعنا ولا مصير شبابنا ، فليس لهم من شأن ما يفعلون خارج أسوار مملكتنا ، من عدم رقي في السفر، وانحلال في حلهم وترحالهم، فالازدواجية أصبحت عادية وسمة حتى لكبارنا ، فنراهم في الخارج غير الداخل. إلى أي حين سنظل ساكتين، ونضيع بين الأمم، ويرونا مصدرا للمال، وليس كمثال يحتذى به، ونكون صورة مغايرة للإسلام ودين الاحترام والثقافة والرقي، نابذين وهاجرين للثقافة والمتاحف والفنون ، نسافر لنتعارف مع الشعوب لا أن ننأى بأنفسنا ونعيش حياتنا بالطول من غير تعارف للثقافات الأخرى ولا النهل من حضارات الشعوب والأماكن التي نزورها، لنصبح رصيدا ومعرفة للتعامل مع الشعوب، رحلاتنا ذات طابع ألف ليلة وليلة، إلى متى وقد مضى على القصة دهر من الزمان ولا زلنا نعيش حالة الشذوذ، فاتبعنا الرواية والقصص المليئة بالرومانسية، ونسينا أن الحب كلمة راقية عنوانها إله أحب عباده فأرسل خير عباده ليكون نبراسا مضيئا لكل الأزمان والعصور، فبالحب نرقى، وليس الحب هو الشهوات العابرة، ولا النزوات الجسدية ولا الأهواء المضلة، إنما الحب والهوى هو رسالة سامية وأسلوب حياة وأسلوب للرقي في طريقة حبنا لأنفسنا وللآخر وليس حالة طارئة جسدية، بل هي غذاء للروح التي فتحت لها قنواتها الشرعية. صورتنا في الخارج ضبابية مشوهة ، إما إرهابية أو متشددة أو انحلال أخلاقي وضياع هوية.
همسة الأسبوع
نبدأ رحلة الصيف خالعين رداء الممنوع لنرجع في رمضان ونضع أقنعتنا من جديد، فطوبى لمن استطاع النجاة من براثن هذا المرض